قصة الجهاد
الحلقة الثالثة
تفاصيل محاولتي الوحدة بين ( الجهاد ) و ( الجماعة الإسلامية ) في باكستان والسودان . . . وأسباب فشلهما
تفاصيل محاولتي الوحدة بين ( الجهاد ) و ( الجماعة الإسلامية ) في باكستان والسودان . . . وأسباب فشلهما
بدأ ضرب السياحة في 1992 وكانت قضية رفعت المحجوب في نهايتها تقريباً أمام القضاء. حضرت أول قضية اعتداء في قضية السياحة أمام نيابة أمن الدولة. كان هناك شاب صغير, يرحمه الله, اسمه دراوي قِناوي (من قنا) وهو من نفذ اعتداء على اوتوبيس سياحي في سوق في المنيا او قنا. نفذ السلاح منه, ولم يقتل احداً. لكن هيبة الدولة اهتزّت. وحادثة السياحة من الاخطاء الكبرى التي وقعت فيها الجماعة الاسلامية.
سُئل أحد الاخوة المعتقلين في قضية المحجوب عن التبرير لضرب قطارات السياح - وكان اعضاء الجماعة يخرجون آنذاك من مزارع قصب السكر ويطلقون الرصاص على القطارات - فأجاب: كي تُفرج الدولة عن إخواننا في السجون, وترد الينا مساجدنا, ونرجع الى الدعوة كما كنا مرة أخرى, وهي وسيلة من وسائل الضغط. لكنه لم يُجب عن مبرر ضرب السياح الأجانب الذين لا دخل لهم في صراع الجماعة مع الدولة. لم تُقدّم الجماعة إجابات مقنعة في تلك الفترة, من الناحية الشرعية ولا حتى السياسية. استغلت الدولة ذلك استغلالاً كبيراً, وكان ذلك في مصلحتها. (...) أما الأدلة الشرعية فكُتبت في ما بعد في تبرير ضرب السياحة, لكن لا يجوز ان تقوم بالشيء ثم تؤصل له وتجد له مبررات شرعية. لا تقتل ثم تأتي وتُعد أبحاثاً شرعية لتجد مبررات لما فعلت. هذا غير مقبول أصلاً. بدأت بخطأ فتتحمل نتيجته وتعترف بأنه خطأ وتتراجع عنه.
محاولات توحيد ... فاشلة
لم تسر (جماعة الجهاد) في سياسة (الجماعة الإسلامية) في ضرب السياحة داخل مصر. لكن جهوداً حثيثة كانت تبذل في الخارج لتوحيد صفوفهما. وقد حصلت محاولتان أساسيتان للتوحيد.
المحاولة الأولى جرت في باكستان. كان هناك بعض الناس الطيبين الذين سعوا الى تقريب الجماعتين, علماً بأن جماعة الجهاد سبقت الجماعة الإسلامية الى أفغانستان. وكانت لكل منهما أماكن مختلفة. كان الأخ عبدالفتاح اسماعيل - قُتل في افغانستان, وتزوّج ارملته رحمة الله عليه حياً كان أم ميتاً أبو طلال (القاسمي, واسمه طلعت فؤاد قاسم, وهو أحد قادة الجماعة الإسلامية) - أول من جاء من الجماعة الإسلامية واستضافه الدكتور أيمن. بعد ذلك قال: افتحوا لنا مضافة. ففتحوا لهم مضافة. وصار الاخوة في الجماعة الاسلامية يأتون ببعضهم اليها. ثم سبقوا جماعة الجهاد وفتحوا اول معسكر لهم, على رغم ان جماعة الجهاد جاءت قبلهم. انفتحت الجماعة الاسلامية على غيرها من الجماعات, في حين انغلقت جماعة الجهاد على نفسها بسبب مبدأ السرية الذي تتبعه ودربت عناصرها بطريقة معيّنة تختلف كثيراً عن التدريبات عند الجماعات الأخرى.
استغلت الجماعة الإسلامية توسعها في تلك الفترة أحسن استغلال. وصادف وقتها ان القوا خطبة في صلاة العيد, بحضور شباب من المغرب والجزائر والخليج والعديد من الدول الأخرى. وكان من قادتها البارزين آنذاك أبو ياسر (رفاعي طه) وابو طلال (طلعت فؤاد قاسم). أثار القاء الجماعة الإسلامية خطبة صلاة العيد كلاماً داخل جماعة الجهاد: لماذا انتم الأقدم والأسبق هنا ولا تقومون انتم بخطبة العيد? لماذا لا تقومون بجهد إعلامي مثل الجماعة الاسلامية. رد بعض الناس بأننا غير مهتمين بهذا الموضوع, لأنه يجر مشاكل ويسمح بأن يندس مندسون في صفوفنا. وهذه وجهة نظر قد تكون مقبولة الى حد ما.
لكن صار بعض الناس يقولون: هؤلاء جماعة جهاد مصرية, وهؤلاء جماعة اسلامية مصرية ايضاً, وكل واحد من الجماعتين جالس في مكان ويعمل ما يريد. وصاروا يقولون: لماذا لا يتحدون بما ان كلاً منهما معارض للنظام. فردت جماعة الجهاد: هذا خير. فالوحدة واجب شرعي. لكن لا بد من تحديد أسس الاتحاد. فطريقة العمل التنظيمي عند الطرفين مختلفة. وهذا الطرف عنده أمور لا تتفق عند الطرف الآخر, إلا في حال تنازل طرف منهما عن بعض مما عنده. ولكن التنازل يتم في الامور غير الأساسية. فقالوا في جماعة الجهاد: احسن حاجة ان نجمع جماعة من العلماء. فرشحوا علماء بينهم الشيخ عبدالرزاق عطيفي والشيخ القاعود وبعض المشايخ المعروفين, إضافة الى شخصيات عامة. قالوا ان مشروعنا هو ان نُحضر هؤلاء العلماء ونحكّمهم في ما بيننا. وقالت جماعة الجهاد ان لا مشكلة في الإسم ايضاً, إذ كانت الجماعة الاسلامية مُصرّة على الاحتفاظ باسمها. فقالت جماعة الجهاد: لا, الاسم الذي يختاره العلماء الأكفأ شرعاً نقبل به. ولا شروط سوى ما يوافق عليه العلماء. وهذا الكلام عن النقاش بين الطرفين هو بشهادة الدكتور شخصياً.
من الناس الذين كانوا متحمسين لهذا الأمر ابو طلال الذي حاول جاهداً تسهيل الوحدة وأعدّ مسودات لها. وهو كان تواقاً لها ومن اشد المتحمسين للوحدة. قالوا له: استشر الاخوة. فذهب لاستشارتهم, لكنه عاد الى الدكتور برفض منهم لمحاولات الوحدة بحسب الطرح الذي قدّمته لهم جماعة الجهاد.
قد تكون الجماعة الاسلامية قامت بعمليات تعتبر انها ناجحة في نظرها. وقد يكون ان الناس وكثرة عددهم (في صفوف الجماعة) هو الذي خدعهم في تلك الفترة. قراءتهم للناحية السياسية كانت في شكل معيّن. ولأمور أخرى لا اعرفها حتى الآن. لكن ما اعرفه ان جماعة الجهاد اقترحت مجلس علماء, ولم تتمسك باسمها او باسم الجماعة الاسلامية وتركت ذلك للعلماء. وهناك من يقول ان الجماعة الإسلامية خشيت ان يكون معظم العلماء المقترحين من مؤيدي جماعة الجهاد فتأتي توصياتهم لمصلحة جماعة الدكتور. آخرون قالوا ان بعض الناس لا تريد الوحدة لأن من مصلحتها ان تبقى كما هي. فهناك من سيخسر بعض النفوذ الذي يتمتع به في جماعته لو دخل الى الجماعة الجديدة التي ستتكون من جماعتي الجهاد والجماعة الاسلامية. هذه بعض التفسيرات لرفض الجماعة الاسلامية الوحدة في 1992.
المحاولة الثانية الاساسية للوحدة حصلت في السودان في آخر 1994 او بداية 1995. ما اعرفه ان ناساً طيبين كانوا يتداولون الأمر في ما بينهم. الشخصان الاساسيان كانا ابو ياسر والدكتور (ايمن). كان قادة الجماعة الإسلامية والجهاد في السودان يعانون المصاعب والتضييق الذي شمل الجميع. عندما كانوا يجلسون مع بعضهم بعضاً لم تكن هناك مشاكل بينهم: فالهم واحد. كان بينهم أناس سنصنّفهم (الحمائم) قالوا: لماذا لا نتوحد ونصبح جماعة واحدة? فسعى بعض الاخوة من الجماعتين الى انجاح هذه الفكرة بعدما رأوا اصرار ابو ياسر عليها والعلاقة الجيدة بين الطرفين. ابو طلال لم يكن موجوداً, إذ كان في الدنمارك, وإن كان على اتصال بالموضوع. الاخوة في جماعة الجهاد سمعوا شيئاً جديداً من الجماعة الاسلامية: الوحدة تتم بدون شروط مسبقة, لأن هذا واجب شرعي. حصل نقاش, وقال كل طرف انه يمكن ان يتنازل عن بعض الاشياء. وضعوا تصوراً لما يمكن ان يحصل. جماعة الجهاد انقسموا قسمين: قسم (صقور) قالوا ان من المستحيل حصول اتحاد بيننا وبين الجماعة الاسلامية, فكيف نتوحد معهم وهم يمكن ان يتراجعوا عن كلامهم لاحقاً او تخرج منهم جماعة تقول انها غير موافقة ولا تعترف بهذا الموضوع. قال هؤلاء ان مشكلة الجماعة الاسلامية انها موزّعة طبقات: جماعة منتشرة في الخارج, وهناك جماعة الداخل, وهناك القيادة التاريخية. ولذلك يمكن ان يُقرّ طرف من هذه الاطراف الوحدة ويرفضها طرف آخر. وعندما تقول له انك اتفقت مع فلان يُدخلك في شؤونهم الداخلية ويقول لك ان لا دخل له في الأمر. وعلى هذا الأساس, لا بد ان تجمع كل الاطراف في الداخل والخارج وفي السجون وتستشيرهم قبل ان تتكلم الجماعة الاسلامية باسم واحد وتقول انها اجتمعت بحضور كذا وكذا واختارت مجلس شورى من كذا وكذا وان الطاعة تتوجّب على الجميع. عندئذ يمكن الاتفاق معهم. هذا ما قاله الناس في جماعة الجهاد الذين لم يكونوا راضين بالوحدة, ليس رفضاً لها وإنما من خلال تجربتهم مع الجماعة الاسلامية.
أما (الحمائم) في جماعة الجهاد وكان من ضمنهم الدكتور أيمن, فقالوا ان أفضل حل ان نعمل مجلس شورى في ما بيننا كلنا ونختار قيادة ومجلس شورى جديداً ونختار أميراً من بيننا بعد ان نتحد. ثم صار نقاش حول التفاصيل: ماذا نفعل في بعض الآراء الشرعية القديمة, مثلاً ولاية الضرير? ماذا ستفعلون في قضية الدكتور عمر عبدالرحمن? هل ستعترفون به أميراً أم لا? فهذه من المسائل المهمة. فهو رجل ينطبق عليه أمران: أسير (في أميركا) وضرير, والأمران لا تعترف جماعة الجهاد بأنهما يصلحان في الأمير. وهناك نقطة أخرى: ماذا نفعل في قضية العذر بالجهل, فالجماعة الاسلامية ترى مسألة العذر بالجهل, وهو ان شخصاً لو عمل شيئاً خطأ في الدين هل يُعذر بجهله أم لا? فقالوا انه يُعذر بجهله إن كان جاهلاً. فلو عمل خطأ في التوحيد وهو جاهل فإنه يُعذر. قالوا ان مسألة العذر بالجهل متعلّقة بأصل الدين الذي هو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فالذي يرتكب خطأ في هذا الأمر, ويعمل خطأ مثل ان يطوف عند ضريح ويُقرّب حاجة لميّت او يسجد لإنسان... فهذه الامور يعتبرونها من أصل الدين ولا يُعذر الجاهل بها. الانسان لا يسجد سوى لله. الجماعة الاسلامية ترى العذر بالجهل وتعتبر ان من يقول ان لا عذر بالجهل مبتدع, أي انهم يُبدّعونه. يجب ان تقبل بأمر العذر بالجهل, وإذا لم تقبل به فأنت مبتدع, حتى وإن كنت رجلاً صالحاً.
أما جماعة الجهاد فتنظر الى هذا الموضوع نظرة مختلفة تماماً. فهي ليست متشددة في هذا الباب. ترى ان مسألة العذر بالجهل مسألة خلافية, وانها على رغم انها موجودة في العقيدة من ضمن باب العقائد, لكن وجودها في باب العقائد لا يعني ان من يخالف فيها يكون مبتدعاً. قالوا انه يصح فيها الخلاف. فإذا قال أحد ان لا عُذر بالجهل لا اُبدّعه, فهو يجتهد. لا يجب ان اُبدّع كل من يخالفني عندما يتعلّق الأمر بالعقيدة. ففي أحاديث الرؤية كانت السيدة عائشة, رضي الله عنها, تنفي الرؤية وإبن عباس كان يرى الرؤية: هل رأى الرسول, صلى الله عليه وسلم, ربه في الإسراء والمعراج عندما عُرج به الى السماء. السيدة عائشة تقول انه لم يره, وإبن عباس يقول بجواز الرؤية. فهذا خلاف على مسألة عقائدية: فهل يكون إبن عباس مبتدعاً او السيدة عائشة مبتدعة? إذن ليس كل شيء في العقيدة نختلف فيه يعني ان اتهمك بالبدعة.
وفي الحقيقة ان الدارس لهذه المسائل في علم الاصول يرى ان عند جماعة الجهاد حق فيها. فالعلماء كانوا يضعون مسألة العذر بالجهل في باب اسمه عوارض الأهلية, ولم يكونوا يهتمون بها كقضية مثل اهتمامنا بها هذه الايام. هذه القضية طُرحت في أيام شكري مصطفى وهو الذي طرحها في إطار قضية التكفير. والمسألة فيها خلاف.
وكان الخلاف في شأن مسألة العذر بالجهل من أوجه الخلاف الكثيرة بين الجماعة الاسلامية وجماعة الجهاد. إذ كان ثمة اوجه اخرى مثل التنظيم المالي والتنظيم العسكري يجب الاتفاق عليها عند التوحد.
جاء الموعد المحدد لجلسة مناقشة الوحدة. حضّروا (جماعة الجهاد) ورقة بشروطهم: موضوع الدكتور عمر, وموضوع إمارة الاخوة في السجن, وموضوع الناس الموجودين في الخارج, وموضوع مجلس الشورى, وكيف سيعلن حل الجماعة, إضافة الى اسئلة مُعدّة لكي تُجيب عنها الجماعة الإسلامية. على هذه الأسس ذهبت جماعة الجهاد الى اللقاء. وأخبرني الأخ الذي حضر اللقاء انه صُدم, إذ لم يتخيل ان الأمور ستصل الى هذا الحد. قالوا له: خير, نحن سنتحد مع بعض. أيوه أيوه. الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد ستتحدان, ولكن إيه الطلبات دي? فردّ: نبقى جماعة واحدة إزاي? قالوا له: لا. الدكتور عمر لا يُمس. الناس في السجن لا تُمس. التنظيم العسكري لا يُمس. التنظيم المالي لا يُمس. رد عليهم: نتحد إزاي? فقالوا: ان تتحدوا معنا يعني ان تدخلوا جماعتكم ضمن الجماعة الاسلامية. فينيتو. خلاص.
ما حصل في ذلك الاجتماع يُثير الذهول. كأنه كان هناك نوع من الاستخفاف بالأمر من جانب الجماعة الاسلامية. كأن الأمر يقضي فقط بأن تدخل جماعة الجهاد ضمن إطار الجماعة الاسلامية وانتهى الأمر. جماعة السجن يبقون هم هم: كرم زهدي يبقى هو هو, وناجح ابراهيم كذلك. هم الكل في الكل. والناس في الخارج لا تُمس. هل هذا اتحاد? ليس اتحاداً بل انضمام جماعة الى أخرى وذوبانها فيها. هذه هي المحاولة الثانية للوحدة, ولم يتكلم عنها أحد على الإطلاق. وكانت في الخرطوم.
إنشقاقات
في تلك السنوات من النصف الأول من التسعينات, شهدت (جماعة الجهاد) انتقال الإمارة من الدكتور سيد إمام الى الدكتور الظواهري. وقد حصل الانتقال في ظل خلافات شديدة عصفت بالجماعة وأدت الى انشقاقات في صفوفها.
بدأت بذور المشاكل والانشقاق في باكستان, ثم في اليمن الذي كان محطة انتقال لأعضاء جماعة الجهاد في اتجاه السودان حيث كانوا يستعدون للاستقرار هناك. كان معظم الحركات الاسلامية قد ذهب الى السودان في تلك الفترة, لأن الحكم السوداني هو الذي فتح الباب لهم ورحب بهم. وفعلاً جاءت جماعة الجهاد وأقامت مشروعاً زراعياً وآخر تجارياً ومشاريع أخرى. كذلك جاءت الجماعة الاسلامية وجماعات من مختلف العالم العربي والإسلامي.
نزلت جماعة الجهاد الى السودان بمشاكلها وخلافاتها من باكستان واليمن. كانت هناك مشكلة قادها بعض الإخوة على رأسهم (عبدالحميد) وهو الصيدلاني أحمد حسين (عجيزة) الذي قبض عليه في السويد ورُحّل الى مصر. كوّن مجموعة كبيرة وأثّر في عدد من الشباب وقال لهم: إن الناس قُبض عليهم بدون إطلاق رصاصة (في إشارة الى نحو الف شخص اعتُقلوا في مصر في قضية (طلائع الفتح)), وان الناس دول مش عايزين يجاهدوا. سيقعدون ثلاثين او اربعين سنة الى ان يصبح عندهم كوادر مدرّبة. قال مؤيدوه ان الانتظار كل هذه الفترة غير معقول ولا بد ان نجاهد, وإلا لماذا جئتم بنا الى هنا, لكي تُخزّنونا? فلننزل الى بلادنا فهذا أفضل لنا. حصل كثير من اللغط وسط إشاعات في شأن طريقة القبض على الناس داخل مصر. بعض الإشاعات قال انه قُبض عليهم نتيجة الإهمال, ونتيجة ان أقراص كومبيوتر تضم اسماءهم وقعت في يد أحد الاخوة الأمر الذي سهّل القبض عليهم. وطبعاً هذا الكلام غير صحيح. فقد حضرت جلسات القضية ولم يكن فيها أقراص كومبيوتر. قُبض على الناس عشوائياً, ولكن في الخارج كانوا يعتقدون ان هناك أمراً ما انكشف وإلا فكيف نُفسّر اعتقال مئات الشباب دفعة واحدة. كانوا يعتقدون ان الاسماء كلها موجودة في شريط كومبيوتر وقع في قبضة الأمن المصري. الذي جمعهم كلهم في قضية واحدة ان الاسماء هي ذاتها التي ذكرها الموقوفون في التحقيق (عن مسؤولي جماعة الجهاد).
هنا قامت جهود لبعض الناس حاولوا ان يُصلحوا بين الذين يريدون الانشقاق وبين الدكتور ومجموعته. كانت هناك مع الدكتور مجموعة مؤيدة له, مثل شقيقه الذي كان موجوداً في الخليج. وكان هناك بعض الناس الأساسيين حول الدكتور مثل محمد صلاح وطارق أنور وثروت صلاح ومجموعة كبيرة من القدامى واعضاء اللجنة الشرعية. أما عبدالحميد (أحمد حسين) فكان معه في المقابل الشباب, ومعظهم من صغار السن. لم يكن معه كوادر قديمة.
الذي حاول ان يُصلح بين الطرفين كان الشيخ ابو عبيدة البنشيري (علي أمين الرشيدي), رحمه الله, مع بعض الاخوة. عقد مجلس صلح بين الطرفين لتهدئة الأمور. طلبوا ان ينزل الدكتور عبدالقادر بن عبدالعزيز من باكستان لأنه هو الأمير ليحسم الأمور, فالناس كانت تهابه جداً. سعى معه كثيرون لكي ينتقل الى السودان. لكنه رفض. كان يجلس لوحده في باكستان. فرفض ان يأتي لتسوية المشكلة. لكن الخلافات كانت مشتعلة وشديدة بين أعضاء الجماعة. هنا, اتصل به الشيخ ابو عبيدة وظهرت مجموعة من ضمنها أحمد حسين قالت انه يجب ان يقدّم الدكتور سيد إمام استقالته لأنه لا يريد ان ينظر في شأن الجماعة. وطفقت الإشاعات تنتشر, والخلافات تكبر. طبعاً, عرضوا الأمر على الدكتور وقالوا له: لازم تنزل. فقال لهم: انا مستقيل, واختاروا أميراً في ما بينكم. قال لهم هذا الكلام بالتليفون, وابلغهم إياه الشيخ ابو عبيدة.
كان المنشقون يريدون ان يستقيل الدكتور فضل (سيد إمام) لأنه أكبر عقبة أمامهم. فهو لو نزل الى السودان لكانوا اضطروا الى وقف تحركهم. الجميع كان يهابه, ولا أحد يستطيع التمرد عليه. فهو صاحب مكانة علمية شرعية رفيعة. لو دمّروا هذه العقبة لكان من السهل عليهم ان يطالبوا بإقالة أي شخص آخر. وسهّل لهم الأمور الشيخ ابو عبيدة عندما نقل اليهم ان الدكتور فضل قدّم استقالته وترك لهم اختيار أمير جديد.
هنا اصبحت جماعة الجهاد في تلك الفترة بلا أمير. وهذا الأمر لا يفهمه سوى الذي يفهم الطريقة التي تُبنى عليها جماعة الجهاد. الجماعة تُبنى على أساس ديني. والإمارة والبيعة أمران أساسيان عندها. هذا الأمر ليس ظاهراً بقوة عند الجماعة الإسلامية التي قد يكون فيها أشخاص غير مبايعين بالمعنى الصحيح. تجد قلة منهم أدوا البيعة. يختلف الأمر في جماعة الجهاد: لا بد ان يبايع الاعضاء بشكل رسمي.
سببت استقالة الدكتور فضل مشكلة شرعية: الجماعة بدون أمير. فتم بسرعة تدارك الأمر حتى لا تحصل فوضى. عُقد اجتماع سريع ضم الناس الاساسيين او ما يُعرف بـ(المجلس التأسيسي) او مجلس الشورى. المفروض انهم 25 عضواً. جمّعوا كثيرين من مختلف انحاء العالم. ارسلوا طلبات حضور للجميع وشددوا على ضرورة عدم التغيّب لأن الجماعة ستضيع وتصير هناك مشكلة. فالمنشقون يمكن ان يعلنوا انهم هم الجماعة وتنتهي الجماعة. لو تأخرت العملية قليلاً لكان المنشقون باتوا هم الجماعة. كان الوضع بالغ الخطورة. حتى ان مراسلات بعث بها المنشقون عن طريق عبدالحميد, وصلت الى بعض الجماعات الأخرى العالمية مفادها ان الدكتور فضل استقال والجماعة بدون أمير الآن وانهم اختاروا شخصاً من صفوفهم (غير عبدالحميد) لقيادة الجماعة.
لكن الناس الأساسيين في جماعة الجهاد كانوا ملتفين تحديداً حول الدكتور ايمن, واستطاعوا ان يتداركوا الأمور. جمعوا الناس التي وصلت من السفر وعقدوا اجتماعاً ليختاروا مجلس شورى جديداً ويبايعوا أميراً جديداً. وفعلاً تمت مبايعة الدكتور ايمن أميراً لجماعة الجهاد. كان كثيرون يريدون ترشيح الشيخ البنشيري. والدكتور (أيمن) نفسه كان يريد ان يبايع ابا عبيدة الذي كان بعيداً عن كل المشاكل والناس تحبه. لكن الرجل رفض بشدة وقال انه يريد ان يبايع الدكتور أيمن وبايعه فعلاً على السمع والطاعة, بشهادة الشهود. كان ابو عبيدة مشغولاً بما يُسمى تنظيم (القاعدة) - وهو لم يكن تنظيماً بل كان مكاناً أقاموه قاعدة للجهاد بعدما مات الدكتور عبدالله عزام. كانت قاعدة عسكرية وليست تنظيماً. وكان في هذه القاعدة ابو عبيدة ومعه ابو حفص, وكثير من المصريين القدامى كانوا قد اشتكوا للدكتور ومن ان هذا المعسكر يستغرقنا ويجعلنا نترك الجماعة لأنه لا يمكننا ان نواظب بين الإثنين, فكل منهما (الجهاد والقاعدة) عنده أولويات. فكرة الدكتور فضل كانت ان نستفيد من إمكانيات هؤلاء (القاعدة) لمصلحة جماعة الجهاد, فكانت النتيجة للأسف سلبية. تحوّل ولاء الناس من جماعة الجهاد كلياً الى شيء آخر, الى كيان آخر يضم أفراداً من جميع انحاء العالم.
حُلّت القضية في جماعة الجهاد بأن عُقد اجتماع للمجلس التأسيسي واختير مجلس للشورى ضم الناس القدامى الذين كانوا فيه منذ البداية واضيف اليهم بعض الاعضاء الجدد. اتفقوا على مبايعة الدكتور أيمن مبايعة صريحة, ودعوا الناس في السودان الى طريقين: الذي يريد ان يلتحق بلدكتور يمكنه ذلك, والذين يريدون ان يلتحقوا بعبدالحميد فليذهبوا معه. ولكن من يريد ان يلتحق بالدكتور عليه ان يبايع من جديد. وفعلاً ذهب اليه بعض الناس الذين كانوا قد انشقوا وبايعوه. ولو لم يستطع هؤلاء الوصول اليه كونهم في بلدان أخرى, كانوا يأخذون منهم بيعة صريحة بالنص وبإسم الشخص المبايع. طلبوا بيعة جديدة وكانوا يعلمون شيئاً اسمه تجديد الثقة بالبيعة, وهي تعني ان الدكتور يرسل طلباً يقول فيه انه يريد تجديد البيعة, فهل انت موافق على تجديدها. كانوا يلجأون الى هذه الصيغة لكي يعرفوا إذا كان أحد من الذين بايعوا غيّر رأيه ويريد ان يكون في حلّ من البيعة السابقة, فيسمح له ذلك بسحب بيعته. لم تكن هناك مشكلة: إذا كنت غير موافق, فأنت حل من هذه البيعة.
وانتـهت المشكلة بهذه الطريقة: بقيت لهذه المجموعة أماكــنهم وأمـوالهم وأفرادهم, وبقيت للفريق الآخر أماكنه وأمواله وأعضاؤه. انتهت الأزمة عند هذا الحد, وتشرذم الاخوة, وكانت حاجة حزينة ان يحصل انشقاق أصلاً. بعد ذلك اعتمدت جماعة الجهاد على نفسها, لكنها وقعت في خطأ جديد.
فالإنشقاق حصل في الأساس بسبب قضية الناس الذين قُبض عليهم (طلائع الفتح). ولكن الذي حصل ان أشخاصاً من الذين بايعوا الجماعة او انضموا اليها من جديد قالوا انه يجب القيام بعمليات ليشعروا إخوانهم بأنهم في السجن لم يذهبوا هباء. فصار نقاش: يمكن ان تُضر الجماعة إذا قامت بمثل هذه العمليات. يمكن ان يُعتقل افرادها الجدد. لكن بعضهم اصرّ على القيام بردّ. ضُغط على الدكتور أيمن شخصياً, فدخل في المشروع (العمليات) بحماسة بعض الإخوة الشباب, ونُفّذت عملية حسن الألفي الأولى وعملية عاطف صدقي.
الرابط
لمتابعة كل حلقات قصة الجهاد في مصر علي هذه الروابط المرفقة
الحلقة الأولي
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق