الإجابة ببساطة هى أنهم ذهبوا لإستكمال دورهم الذى بدأ فى مصر منذ عهد جمهورية الفساد والإستبداد الثانية، جمهورية السادات،عندما أفسدوا الوضع الإقتصادى وفقا للرؤية الإسرائيلية. وربما يتضح مستقبلا أنهم كانوا فى مصر مجرد حصان طروادة للأموال الإسرائيلية، أى مجرد واجهة مصرية لأموال قادمة من إسرائيل .
هؤلاء ذهبوا إذن لإستكمال مهمتهم فى السودان و تصنيع الجزء الثانى من المأساة فى مرحلة ما بعد الإنهيار العظيم فى مصر.
ومن المنطقى أن يكون هناك تفكير أمريكى إسرائيلى على النحو التالى :
ـ يجب أن يكون هناك منفذ مناسب لإمتصاص الهجرات الكثيفة التى ستخرج من مصر نتيجة المجاعات والحروب والتقسيم .
ـ هذا التخفيف السكانى لمصر (أو حتى التهجير القسرى) سيكون ضروريا حتى تصبح عملية الإنهيار مأمونة العواقب ولاترتد فى صورة مقاومة شعبية يائسة تنفجر فى وجوههم . فربما أدت إلى عواقب سيئة جدا وغير متوقعة.
علاج ذلك الإحتمال يكون بإيجاد أمل كاذب فى الخلاص الفردى لدى المواطن المصرى الذى أدمن على الحلول الفردية لمشاكلة . وليس أفضل من وهم كاذب بالخلاص فى السودان حيث أرض بلا حدود فى بلاد تفيض بالعسل واللبن.
ـ ضمان ألا تتحول الهجرة المصرية الواسعة إلى السودان إلى أحد إحتمالين كلاهما ضار فى المدى المتوسط :
أ ـ أن تتحول الهجرة إلى عملية إعداد لزحف معاكس لإستعادة مصر، تحت شعارات جديدة وشديدة العداء لأمريكا وإسرائيل .
ب ـ أن يظهر فى السودان مستقبلا، مجتمع جديد منصهرعرقيا، عالى الفعالية يؤثر فى القارة الأفريقية كلها، ويصبح مركزا للحركة السياسية والإقتصادية والأيديولوجية، فى إجمالى القارة ، يشبة بشكل ما تأثير الهجرات الأوروبية إلى أمريكا الشمالية .
لهذا سبقت أمريكا وإسرائيل إلى المبادرة بإعداد المسرح السودانى، عبر أدواتها من الرأسمالية المصرية والخليجية، لإستقبال الهجرات المصرية المتوقعة ، من أجل السيطرة مستقبلا على مسارات حركتها، وإدخالها فى مسارب عبثية تستنفذ طاقاتها، مثل الصراعات العرقية مع قبائل الشمال، وحروب تجزئة وتقسيم السودان التى منها حروب مع الجنوب الوثنى الزاحف صوب الشمال. ذلك الزحف الذى من المناسب جدا أن يتكامل فى غاياته مع الزحف الأثيوبى على الصومال والقرن الأفريقى .
دور جديد للحبشة
الزحف المذكور سوف يؤدى إلى تشكيل كتلة إفريقية قوية جدا تقودها الحبشة تكون مؤهلة لعبور تاريخى جديد للخندق المائى المسمى بالبحر الأحمر متوجها صوب اليمن. وبما أن الحبشة هى أحد قواعد نهر النيل فمن الضرورى إلقاء نظرة متفحصة لتحركاتها المريبة الجديدة، سواء بالنسبة لمياه النيل ومشاريع تخزينها وبيعها فى المزاد الدولى ، أو التوسع الإحتلالى على أرض القرن الأفريقى المواجه لليمن.
وليس من المستبعد فى المناخ الدولى الراهن، فكريا وسياسيا، أن يجرى التجهيز لتكرار السيناريو التاريخى القديم فتتولى الحبشة طحن القبائل اليمنية شديدة المراس والتى يقوم النظام اليمنى حاليا بإضعافها إلى أقصى حد، وهو بذلك يسهل بلا شك المهمة التاريخية المتجددة للحبشة فى جزيرة العرب.
هذه المهمة المقدسة لجيوش الحبشة تتكامل بالتأكيد مع المجهود الإسرائيلى الأمريكى فى جزيرة العرب ، ويوفر مجهود تلك الجيوش البيضاء ويتكفل لهم بالجزء الأصعب من المهمة وهو إخضاع قبائل اليمن التى تشكل القوة القتالية الحقيقية والوحيدة التى يحسب لها حساب فى جزيرة العرب والتى يمكن لها أن تشكل تهديدا لبرنامجهم فى تلك البقعة الحساسة .
التجربة الحبشية فى الصومال حاليا تجدد أحلاما باتت قريبة المنال لتكرار التجربة التى فشلت سابقا فى حرب الفيل التى قام بها أبرهه الأمبراطور الحبشى منذ خمسة عشر قرنا مضت.
التجربة الجديدة، للزحف صوب الكعبة ، إن تمت، لن تكون مباشرة وفجة كما كانت قديما، بل ستتم تحت قرارات الشرعية الدولية وبواسطة تحالف دولى من دول العالم المنضوية تحت تحالف مقدس لمحاربة الإرهاب، والذى تمثل الكعبة رمزه الأكبر.
وهنا قد يقول الظرفاء : هذا هراء ، فأمريكا لا تريد إلا النفط وإسرائيل لا تريد سوى السلام وتتطبيع العلاقات مع العرب.
ونحن نقول لهم : كفاكم تنطعا، فإن الذى يأخذ مكة والمدينة فى الحجاز ، يصبح قادرا على أخذ أى شئ يريده فى كل المنطقة العربية والإسلامية جميعا. فأعيدوا قراءة تاريخ صراع بريطانيا العظمى مع الدولة العثمانية، حول المقدسات الإسلامية فى الحجاز. هذا الدرس التاريخى تدركه إسرائيل جيدا وتعلم أن سيطرتها الإمبراطورية على المنطقة لن تكتمل بغير السيطرة على مكة ، إما بشكل مباشر أو عبر عشيرة بدوية تطمئن إليها .
نقول أن الحبشة هامة جدا بالنسبة للرؤية الدولية لمياه النيل ، ومهمة أيضا لتثبيت الوضع الإمبراطورى الجديد فى الشرق الأوسط .
النفط ـ الماء ـ الأرض
إسرائيل ومعها أمريكا والغرب يريدون الإستيلاء على مصادر الثروة الحيوية فى العالم ، خاصة بعد الإنقلاب المناخى الوشيك على ظهر الكوكب الأرضى، تلك المصادر هى النفط والماء والأرض الزراعية.
فإذا سلبوا من أيدينا تلك العناصر الثلاث سنكون خارج مسار التاريخ وبكل جدارة.
ونحن فى مصر يجب أن نتدارك الأمر الآن، حيث أننا واقفون تماما على حافة الهاوية ،
فإما أن يدفعنا النظام إليها ونخسر كل شئ ، الوطن والثروات والمستقبل ، وإما أن نقذف النظام فيها وتنجو مصر أرضا وشعبا. بل وتنجو كل المنطقة العربية بشعوبها وثرواتها ومقدساتها.
فلا يظن أحد أننا فى مصر أمام مشكلة رغيف عيش أو رواتب أو غلاء أو فساد أو بلطجة أو أى شئ آخر. إننا ببساطة أمام مشكلة وجود .. لا أقل .
بهذه النظرة يجب أن نعود لفحص واقع الثورة الشعبية فى مصر الآن . ولاشك أن ما مضى من أحداث منذ السادس من إبريل حتى الرابع من مايو قد أوضح ما يمكن تسميته بالإسلوب المصرى فى تنفيذ الثورة الشعبية السلمية. وهو الأسلوب الذى يحمل خصائص ومميزات الوضع المصرى كله . لقد أظهرت التجربة العديد من نقاط الضعف فيه، كما كشفت العديد من عورات النظام ونقاط ضعف قاتلة فى بنيته وتفكيره وأسلوب عمله.
فلقد ظهر واضحا أن التحرك الشعبى يعانى من عدم وجود قيادة مركزية. وقد تحدثنا سابقا عن هذه النقطة وما تحمله من مزايا وأضرار. وقلنا أنه فى لحظة معينة من نمو وتطور الإنتفاضة سوف تتبلور وتظهر إلى العلن قيادة لها. ولايمكن الآن التنبؤ بشكل تلك القيادة، لأنها ستنبت من وسط الأحداث وحرارة المواجهات.
ولو كانت ملامح تلك القيادة واضحه الآن لسحقها النظام على الفور. وهو يسحق الآن بالفعل كل من يشتبه فى مجرد إحتمال ظهورة كقيادة مستقبلية. بل هو يفعل ذلك منذ سنوات طويلة فى كافة المجالات وليس فى العمل السياسى وحده . وقد وصل الأمر إلى قيامه، وبدعم من حلفائه، بعمليات قتل وإغتيال داخل وخارج مصر، لعناصر قيادية يحتمل أن تقوم بدور مستقبلى . وسوف تظهر تفاصيل تلك الجرائم عندما تبدأ محاكمة أركان النظام الحالى بعد إنتصار الثورة.
ويفتقر التحرك الشعبى الحالى إلى رؤية موحدة للهدف النهائى. فهناك من يطالب بتحسين الأوضاع المعيشية وهناك من يطالب بتغيير النظام كله. وهذا التوجه الأخير لم يحدد إلى الآن رؤية متماسكة لشكل النظام القادم . ولكن الأسوأ هو مناداة البعض بإستبعاد قوى سياسية بعينها ، كالإخوان مثلا، والبعض يرغب فى إستبعاد أيديولوجيات بعينها مثل الإسلام أو الليبرالية أو العلمانية ..
غابت الطبقة المثقفة فى معظمها عن التحرك الشعبى الثورى . وكان فى ذلك إشارة إلى أن تلك الطبقة قد إختارت النوم فى أحضان النظام ، أو معارضته طبقا للمواصفات الأمريكية للمعارضة المرضى عنها دوليا .
على المثقفين إعادة النظر فى مواقفهم بسرعة وتحديد إنتمائهم الحقيقى . فلذلك تأثير كبير عليهم وعلى البلد كلها.
ونفس الشئ يمكن قوله لعلماء الدين المسلمين الذين سكت معظمهم ، بينما ألقى البعض بنفسه كاملا بين أحضان النظام . فإذا تحرك العلماء الشباب مع هذا الشعب المطحون فسوف يحسنون صنعا لأنفسهم أولا، ثم لبلدهم ومستقبل الإسلام فيه ثانيا.
أما الكنيسة المصرية فإن المتفحص بدقة لموقفها المعلن من الأحداث الدائرة، مع فهم الأعماق الدبلوماسية فى الخطاب الكنسى ، يجد أنه موقف جيد للغاية. ولايمكن توقع المزيد نتيجة لخصوصية الكنيسة وحساسية موقفها. ولكن أى نظام شعبى قادم ستكون الكنيسة فى طليعة مؤيديه ، لأن سلامة الكنيسه المصرية لاتنفصل عن سلامة مصرالوطن ، والعكس أيضا صحيح .
إن رغبة البعض فى إقصاء البعض الآخر ، تتناقض مع الحاجة إلى تجميع قوى الشعب كافة للتغلب على النظام وإسقاطه عن الحكم . وهى مهمة تحتاج إلى تكاتف جميع القوى لأن مقاومة النظام المستقوى بحلفائه فى الخارج سوف تكون ضارية ، كون المعركة مصيرية بالنسبة لجميع أطرافها. فنحن أمام تحدى لم تشهد له مصر مثيلا منذ أن جعل منها مينا وطنا موحدا. وأمام تحدى كهذا لامجال أبدا للتنابذ أو الإقصاء. فالشعب مقبل على مرحلة شاقة جدا وخطيرة ، تستلزم تضحيات ضخمة ، ولسنا مقبلين على مرحلة من توزيع الغنائم . فإما أن تبقى مصر قوية ويبقى شعبها عزيزا ، أو أن تتمزق مصر ويتحول شعبها إلى شرازم ضائعة جائعة وممتهنة ، تفتقد لقمة الخبز وشربة الماء.
إنها معركة وجود : فإما نكون الآن .. أو لا نكون أبدا .
بقلم :
مصطفي حامد (ابو الوليد المصري)
المصدر :
مافا السياسي (ادب المطاريد)
نشر في تاريخ 15 مايو 2008
مدونة النديم :
مختار محمود "مواطن مصرى "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق